السبت، 24 نوفمبر 2012

إن معى ربى سيهدين







المكان : شاطىء بحر القصب المسمى حاليا بخليج السويس
الزمان : قيل أكثر من ثلاثة آلاف سنة صباح اليوم العاشر من المحرم المعروف بعاشوراء
-----------------------------------------------------------
من بعيد بدت العاصفة الرملية
أصوات تتعالى تدريجيا مع اقتراب الغبار الثائر
صليل معادن و دبيب مدوى يتصاعد يبدو أنه وقع سنابك خيل يختلط بصهيلها الذى يتضح رويدا رويدا
يبدو أنه ما كانوا يفرون منه

ليست عاصفة رملية إذا إنما هى سحابة تراب أثارته سنابك خيل الطاغية
تردد الخبر بين الجمع الواقف على مشارف بحر هائج ترتطم أمواجه بأقدامهم ثم تعود آفلة إلى منبعها لتتلوها أمواج أخر
توجهت أنظار الجمع القلق إلى الجيش الجرار الذى يقترب رويدا رويدا
يبدو أنه لا فائدة
سرى ذلك الشعور فى قلوب قوم ما انفكوا عن الإرجاف لأعوام و قد أفسدت فطرتهم عقود من الظلم و الاستعباد جعلت شعار لومهم لمنقذهم و قائدهم " أوذينا من قبل أن تأتينا و من بعد ما جئتنا "
لم يتغيروا على ما يبدو
نفس اليأس و الخوف الذى طالما صاحبهم يظهر الآن من أعين تدور فى محاجرها كالذى يغشى عليه من الموت
إنا لمدركون
كلمتان حوتا عديدا من المؤكدات اللفظية نطق بها بنو إسرائيل بأصوات رعديدة تقطر بالفزع و تنضح بفقدان الأمل
و كأنهم نسوا كل ما مر بهم
ويكأن كل الآيات التى رأوا فيها تجليات قدرة ربهم يجريها على يدى قائدهم قد تم محوها من أذهانهم
يا لضعف ذاكرتكم
أنسيتم العصا المتحولة و اليد البيضاء من غير سوء آية أخرى
أغفلتم عن الجراد و القمل و الضفادع و الدم التى ابتلى بها عدوكم و مذلكم و قومه بينما نجاكم الله منها ؟
ويحكم أين عقولكم
إنه نبيكم و منقذكم الذى ما كذبكم يوما
أولم يعدكم أن يهلك ربكم عدوكم و يستخلفكم فى الأرض من بعدهم فينظر كيف تعملون
فمالكم كيف تحكمون
ثم كانت الصفعة
صفعة يقين على قلب كل مرجف واهن أكد بيأس أنهم مدركون
صفعة بكلمة من ثلاثة أحرف بددت غيايات الإرجاف البادى من صياحهم
كلا ....
قالها الكليم وضيئة تتلألأ بأنوار العقيدة
كلا ...
قالها حاسمة قاطعة لا شك فيها
و كيف لا يفعل و هو من رقى درجات الثقة درجة تلو أخرى
كيف لا يفعل و قد تعلم الدرس مرة بعد أخرى
تعلم أنه لا يخاف لدى الله المرسلون
تعلم ألا يخاف و هو الأعلى بإيمانه
تعلم أنه بآيات الله و من اتبعه الغالبون
و تذكر الوعد الربانى
الوعد الذى كلمه به ربه منذ أعوام مخاطبا إياه و أخاه
لا تخافا إننى معكما أسمع و أرى
هذا الوعد الذى وجد قلبا خصيبا لتنمو فيه جذور الثقة المطلقة فى مآل الأمر و تنبت منها شجرة طيبة من يقين راسخ فرعها ثابت و أصلها فى السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها
و كان من أكلها أن قال بعد حرفه الحاسم :
" إن معى ربى "
إنه يدرك معنى المعية ؛ معية الملك الحق
فكيف يخاف أو يشك
إن معه ربه يسمع و يرى
لا شك إذا أنه سيهدى
لذا قالها بحزم نافذ " سيهدين "
لكن كيف ؟؟
لا توجد أسباب
من أمامهم بحر لجى ثائر لا يأمن أصحاب السفن على أنفسهم فيه فما بالك بقوم قد أجهدهم طول المسير فى صحراء مصر الشرقية و جفت حلوقهم و جلودهم تحت حر شمسها و لا مركب لهم إلا أقدام قد كلت من عناء الرحلة
و من خلفهم طاغوت و جيش هادر لا هم له و لا غاية إلا إفناءهم
من أين أتيت بهذا اليقين يا موسى
دلنا إذا على المفر وخبرنا بربك عن طريق النجاة
و من أدراكم أنه يعرف بعد ؟!
إنه يصدق ربه و هذا قد يسبق علمه بالتفاصيل لكن يوقن أنه سيعلم فى الوقت المناسب
و هاقد علم
و قد جاء الوحى
و وصل روح القدس القوى الأمين
ها هى العصا ترتفع من جديد لا لتتحول هذه المرة إنما لتحول
لتحول مغرقا عميقا إلى ملاذ يابس و سبحان من جعل المغرق ملاذا و الملاذ مغرقا
نعم
لقد كان الملاذ يوما مغرقا لولد نوح عليه السلام فلم ينجه جبل آوى إليه و لم يعصمه ارتفاعه من أمر الله
و ها هو المغرق يتحول إلى الملاذ الوحيد الذى سيأوى إليه موسى و قومه
مشهد مهيب لم تر الدنيا مثله
جبلان عظيمان من الماء كأنهما شلالان يهدران عن اليمين و الشمال و بينهما أودية ضيقة يختلط طين أرضها بشعب مرجانية حادة يجاهد القوم فى تفاديها و المرور من خلالها
يا له من مشهد و يا لها من آية
لقد انشق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم
مر بنو إسرائيل يسارعون الخطا و لو نظر أحدهم إلى جبل الماء بجواره لربما أفزعه ظل قرش يتجول أو سرب مخلوقات بحرية يسبح بحثا عن رزقه و لا تفصل بينهم و بينه إلا أمتار
لكن الله أراد لهم أن يمروا
و أن يأمنوا و ينجوا
--------------------------------------------------------------------------
من بعيد كان المشهد مختلفا
الزمان: قبل قليل من الأحداث السابقة
المكان : على بعد مئات الأمتار منها
إنه ركب الطاغوت و جيش الظالم مدع الألوهية و الجبروت
مائة ألف فارس على مائة ألف أدهم بخلاف العبيد و الخدم
ركب فرعون
ابتسامة عريضة تعلو شفتيه الغليظتين و قد بدا له مبتغاه من بين سحائب الغبار التى تثيرها سنابك خيله و رجله
ها هو الجمع يظهر من بعيد على ضفاف بحر بلاده
ليس لهم من ملجأ منى الآن
هكذا قال لنفسه
الآن حان وقت الخلاص من أولئك المتمردين الذين يشككون فى ربوبيته و يزعزعون ركائز أسطورته
آن الأوان ليكونوا عبرة لمن يأتى خلفهم و تسول له نفسه أن يتحداه
ازدادت ابتسامته اتساعا و هذه الأفكار تتردد فى ذهنه متذكرا أحداث الساعات و الأيام السابقة
نشوة رهيبة تملأ صدره العريض حين استرجع قدرته على تشويه موسى و من معه ببعض كلمات استخف بها قومه فأطاعوه
إن هؤلاء لشرذمة قليلون
هكذا حقرهم و سفه من شأنهم أمام قومه
ثم جاء وقت التحريض
إنه حريص أن يبدو فى مظهر المشاور الذى لا يأخذ قرارا بمفرده

تنهد و كادت تفلت منه ضحكة ساخرة حين تذكر كيف حرك قومه كقطيع من الماشية بقوله
و إنهم لنا لغائظون
و إنا لجميع حاذرون
لقد تحدث بلسانهم و سيطر على أفكارهم و ما أراهم إلا ما رأى
يا ليتها حتى كانت خطبة عصماء طويلة
إنها بضع كلمات خدع بها شعبا من المستخفين استحقوا أن يكونا بذلك من الفاسقين
و ها هو قد دنا من بغيته و اقتفى أثر عدوه و اقتربت المواجهة التى اشتاق إليها منذ أعوام أذله فيها موسى مرة تلو أخرى
نعم أذله
حتى لو لم يعترف بذلك أمام أحد فإنه يوقن بذلك فى قرارة نفسه
لقد هزمه فى كل تحدٍ
علا عليه فى كل مفاصلة
و هل ينسى يوم النيروز
يوم الزينة حين ألقى سحرته ساجدين و آمنوا برب موسى و هارون
يا له من يوم محرج و وصمة عار فى تاريخه
صحيح أنه أطاح بأولئك السحرة المتمردين المتآمرين لكن المرارة لم تفارق حلقه قط ؛ مرارة الهزيمة و فزع المشهد حين رأى عصا موسى تلقف أفاعى أتباعه
و المرارة الأكبر حين اضطر أن يبعث لموسى يرجوه أن يدعو ربه ليكشف الرجز و المجاعة و الآفات التى حلت بقومه
اختفت الابتسامة تلاشت النشوة حين بلغت الذكريات هذا المبلغ
لقد جرؤ موسى على تحديه فى كل موضع و قلَّب عليه أقرب الناس إليه حتى وصل الأمر لامرأته التى آمنت بموسى و بصاحبه و قريبه الرجل المؤمن الذى وقف هو الآخر يتحداه على الملأ
لكن لا بأس
ها قد حانت لحظة الانتقام
سيذكر التاريخ طويلا هذا اليوم و سيجعل عاشوراء عيدا يحتفل به المصريون و يتذكرون كيف نكل إلاههم بهؤلاء المتمردين الذين يبدون قليلى الحيلة من بعيد
ما هذا
ما الذى يحدث للبحر ؟
ما هذا الصوت الهادر الذى يصم الآذان
تسمر الجيش فى مكانه و جفلت الخيل و كادت أن تسقط براكبيها لهول المشهد
كيف يتعالى الموج هكذا ؟
مستحيل
لقد صار الموج يصافح السحاب و كأنه طود شاهق
هلموا أيها الرعاع
تحركوا
أدركوهم
لا يمكن أن يفلتوا هذه المرة
أسرعوا فلقد كادوا يغيبون عن البصر و تطويهم ظلال جبلى الماء
هيا اقتحموا ما لكم تترددون
إن كان موسى قد عبر فما يمنعنا من العبور خلفه
إنها مجرد ظاهرة طبيعية لعلنا فقط لم نسمع بها
هيا أيها الجبناء
ها أنا أتقدمكم و لا يرهبنى هدير الماء و لا ظلال الحيتان المتجولة
تقدم الجند على مضض حين رأوا قائدهم الأحمق يقتحم تلك المخاضة المرعبة
تقدمون يهمهمون باعتراض مكتوم لم تمكنهم نفوسهم المستخفة الفاسقة من البوح به رغم أنهم يشعرون بقدر الحماقة التى هم مقبلون عليها
هم يعلمون جيدا أن هذه معجزة جديدة من معجزات موسى فكيف يأمنون ألا تسلط عليهم
يا لكبر قائدنا و غروره
هلموا أيها الجبناء
رددت جبال الموج صيحة قائدهم يستحث خطاهم للحاق به فى قعر البحر المشقوق
بدأ القلق يخبو شيئا فشيئا و قد صاروا فى منتصف المسافة تقريبا و ظهرت ضوء الضفة الأخرى على مرمى البصر
ها قد اقتربنا و يبدو أنه قد صدق قائدنا
أسرعوا الخطا فهاهو موسى و قومه يظهرون على الضفة الأخرى و قد عبروا بسلام
فرعون يحث الخطا و يكاد يطير بفرسه

هل هو قلق ؟
هل هو خائف أن نكون وحدنا بين جبلى الماء ؟
أين ثقته التى كانت تقطر من حروفه منذ قليل حين حمسنا للدخول
والتأم البحر
هكذا فجأة و دون مقدمات
عاد البحر لسابق عهده و ارتطم جبلى الماء
غاب الجند و كتمت الأمواج صرخاتهم فلا تسمع لهم ركزا
"فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون"
صوت مكتوم منفرد هو المسموع الآن
صوت يغرغر مختنقا بالعبرات التى تختلط ملوحتها بملح البحر و طميه الذى يدسه جبريل فى فمه
"آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ"
يا لها من عبارة طويلة بالنسبة لهذا الموقف العصيب
كل تلك الحروف و الكلمات و ليس فيها الكلمة الأعظم
ليس فيها اسم الله
ألهذه الدرجة ثقل لسانك البغيض عن النطق باسم الله
تدعى الإيمان الآن ؟
" آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ"
و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن
ازداد الاختناق و توالت السكرات و الحسرات و الندم على ما فات
لكن هيهات هيهات
لقد هلك
و مات
مات أفجر طاغية عرفته البرية
مات من قال أنا ربكم الأعلى و ما علمت لكم من إله غيرى
مات الذى قال أليس لى ملك مصر و هذه الأنهار تجرى من تحتى
ها هى تجرى من فوقه و لات حين مناص
ها هو يغيب رويدا رويدا تحت الأمواج
و لكن كلا
لابد أن يكون آية
لابد أن يعرف الخلق أنه قد هلك لا يقولن أحدهم إله علا فى سماء
لابد أن يروه و الطين فى فمه و الرعب على قسماته
"فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ"
اليوم
يوم عاشوراء
الذى ظننت يا فرعون أنه سيكون يومك وعيدك الذى سيتحاكى فيه الناس عن بطولاتك و أمجادك
لقد ظل يوما مشهودا
يوما من أيام الله الذى جحدته و استكبرت على عباده
يوما أظهر الله فيه عبده عليك و تركك آية لمن خلفك
و صدق الموقن الكليم فى حرفه الواثق
كلا
إن معى ربى سيهدين
وها هو قد هداه و نصره
لم تزل الرحلة طويلة و الطريق شاق و الله ينظر كيف يعملون
لكنه سيبقى يوما مشهودا
يوم ظهر الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا
و " إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ"

و كتبه
د.محمد على يوسف

0 التعليقات:

إرسال تعليق

تعليقاتكم تهمنا ( نتمني دائما أن نكون الأفضل بإذن الله )

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More